مقدمة لكتاب باسكال بقلم أوس جينيس
كنموذج لأناس محدثين، معظمنا معرضون للعنة “homo-up-to-datum”، وهو التعبير الذكي لدانيال بورستن Daniel Boorstin عن الوهم القائل بأننا كلما كنا أقرب للمعلومات السريعة الكلية، كلما اقتربنا أكثر من الحكمة. من العواقب الكثيرة لهذا الوهم، وواحد من أكثرها حمقاً هو أننا نبدو أننا نعرف كل شيء عن الأربع والعشرين ساعة الأخيرة لكن في مقابل عدم معرفتنا بأي شيء عن الأربع والعشرين سنة الأخيرة، فما بالك بالأربع والعشرين قرناً الأخيرة!
قصر النظر هذا هو جزء لا يتجزأ من ثقافة “البشر المحدثين”، لأنه كما سبق وتنبأ نيتشه Nietzsche في Thus Spake Zarathustra، معظم البشر غير قادرين على الاستجابة “لموت الله” بأن يصبحوا قاهرين بطوليين أو “أناساً خارقين”. إذ فقدوا الاتصال بالتسامي، فإنهم في النهاية سيفقدون حتى القدرة على احتقار أنفسهم، وسينتهي بهم الأمر بخلط ليس فقط السماء بالسعادة بل أيضاً السعادة بالصحة.
إن وصف نيتشه هو في الأغلب محاكاة تهكمية ساخرة لعصر مَنْ يمارسوا رياضة الجري joggers والمُتبعي رجيم الطعام بهوس dieters الذي نعيش فيه. فقد حلت الصحة محل كل من السماء والأخلاقيات. اللياقة الرياضية هي الشكل الجديد للتقشف والزهد asceticism. يتم مدح التفكير الإيجابي أكثر من التفكير العميق والتأمل. الخبرة البشرية بكل تعقيداتها الثرية، المأساوية، الساخرة، يتم تقليصها إلى حماسة الرفاهية الجسدية. والمعرفة الذاتية والسيطرة على الذات يتم وعدنا بهما من خلال الحميات الغذائية والتدريبات الرياضية. “المرء لديه متعته الضئيلة للنهار ومتعته الضئيلة لليل”، يعلق نيتشه، “لكن المرء يهتم بالصحة. “لقد اخترعنا السعادة”، يقول البشر المحدثون، وهم يتعامون عنها”.
باختصار، إن سقم عصرنا هو أن لدينا أجساد سليمة لكن عقول مترهلة ونفوس فارغة vacant. لذلك، مثل من ينعس في القيلولة بعد وجبة طعام ويرفض أن يُنهِض نفسه لكي يجيب على الهاتف، نجد أنفسنا غير ميالين للانتباه إلى التحدي بأن نرتفع فوق عصرنا.
بالنسبة لأولئك الذين يرغبون حقاً في الارتفاع فوق زمنهم أو الوقوف خارج ثقافاتهم، توجد ثلاث طرق أكيدة. بترتيب تصاعدي هي، السفر، والتاريخ، والمعرفة المباشرة بالله – ولا يوجد إلا حيوات وشهادات قليلة يمكن أن تساعدنا مع الطريقين الأكثر عمقاً أكثر من بليز باسكال.
مثل نيتشه، عاش باسكال حياة جرأة فكرية منعزلة، مات شاباً، وتحمل ألماً جسدياً مستمراً. ومثل نيتشه، كان باسكال واعياً بغثيان “اللاتكون” abyss، رغم أنه أطلق عليه “اللانهائية” infinity وعبَّر عن نتيجته الأعمق بكلمة “العبث” أو الهباء vanity، بدلاً من انعدام الأهمية weightlessness.
لكن هنا تنتهي التشابهات بينهما. فقد أعلن نيتشه نفسه بأنه ضد المسيح وتسلق الجبل العالي لكي يبشر بالإنسان الخارق “ويرى اللاتكون لكن بكبرياء”. لكن باسكال، على النقيض من ذلك، استخدم الاسم المستعار “Louis de Montalte” (لويس الجبل)، ولكنه كان أكثر وعياً “بالجبل العالي” باعتباره المكان الذي جرب فيه إبليس يسوع، وقد رأى نفسه، في قلبه وقلمه على حد سواء، باعتباره بطل المسيح و”صديق للحق”. بالنسبة لنيتشه، كان عمق موت الله وكونه لا شيء هو الذي قلَّص الإنسان بدون الله إلى درجة انعدام الأهمية. بالنسبة لباسكال، كانت عمق حياة الله وكونه كل شيء هو الذي قلَّص الإنسان بدون الله إلى درجة الهباء.
لذلك فقد وجدتُ باسكال هو الثاني بعد أغوسطينوس كقديس بطل كانت حياته إلهاماً وتحدياً كما كانت أيضاً ترياقاً جذرياً لتلمذة أواخر القرن العشرين.
لكن ماذا كان سر إلهام باسكال؟ بالنسبة لي على الأقل، لا يكمن هذا في مواهب التفوق التي تقدمته. صحيح أنه كعبقري في الرياضيات، ومخترع، وأب للكمبيوتر الحديث، هو واحد من أعظم المفكرين البشريين في كل الأزمنة. كما أنه من الصحيح أنه كند معاصر وصديق حميم لقادة مستنيرين مثل ديكارت Descartes والملكة كريستينا ملكة السويد، كان حقاً مفكراً لعصر النهضة، ضليعاً في الرياضيات، والفيزياء، والفلسفة، واللاهوت. كما أنه من الصحيح أنه كان واحداً من أعظم مؤلفي النثر ذوي الأسلوب الرفيع في اللغة الفرنسية، والذي كتب ما أثنى عليه كُتّاب فرنسيون مثل فولتير Voltaire باعتباره أعظم تحفة في النثر الفرنسي.
لكن بالنسبة لمعظمنا، هذه إنجازات يمكن مدحها ولكنها لا تساعدنا كثيراً. إنها أبعد منا كثيراً بحيث أن أية فكرة لمحاكاتها تؤدي إلى لحظة من الخداع وحياة من اليأس. لكن لحسن الحظ، يكمن إلهام باسكال الحقيقي في مكان آخر. من عدة نواحي، لم تأتي إنجازاته بسهولة. لقد كانت ضد التيار، تيار كل من شخصيته وزمانه. لكن ما أشعل وامتد لكي يلهب القدرة العميقة لشخصيته ومواهبه كان شيئاً متاحاً لنا جميعاً – لقد تعرف على الله بعمق شديد حتى أنه أصبح إنساناً مشتعلاً بالنار الإلهية.
باختصار، تعتبر شهادة باسكال عبر القرون هي شهادة شعله متوهجة قوية وقصيرة من حياة تدفيء قلوبنا، وتعيد إشعال إيماننا، وتمطر آلافاً من شرر الحق داخل الفكر المظلم لزماننا.
لذلك دعوني أضع بعضاً من الأسباب التي لأجلها وجدتُ حياة بليز باسكال وكتاباته بناءة، والسبب الذي لأجله أعتقد أنها تستحق جمهور أعظم من المشاهدين في الدوائر المسيحية اليوم. لكن في البداية هناك تحذير: باسكال هو قديس بطل، ولكنه مبهم. فكما أن التلاميذ اتبعوا يسوع لكن إيمانهم تحول إلى خوف إذ رأوا الثبات يرتسم على وجهه للانطلاق إلى أورشليم، لذلك في السراء والضراء – هناك عناصر في قصة باسكال تجذبنا أكثر إليه، لكن ليس لقرب أكثر من اللازم. فنعجب به، لكن في بعض الأحيان من بعيد فقط، وفي أحيان أخرى لا نعجب به على الإطلاق.
عبقرية باسكال لها جانب بشري يعادل القوة الخارقة الفوق بشرية. كان باسكال يحب المزاح والخدع الصبيانية. لكن مثل الكثيرين منا، كان سيئاً بشكل غير معقول في كتابة الخطابات، ومثل بعضنا، كان لفترة من الزمن مغرماً بصورة رهيبة بقيادة السيارات بسرعة. لقد شعر بفخر عظيم لاختراعه أول سيارة باص في باريس وبالتالي أول نظام للنقل العمومي بها.
لكن كل هذه الأمور، إلى جانب محبته العميقة لأسرته وتفانيه للفقراء، هي تعويض في بعض الأحيان للطريق الذي قاده الله فيه وبعض الممارسات التي اختارها عبر هذا الطريق. بالنسبة لي، ما كنت سأفضل أن أختار لا كأس آلامه ولا موته المبكر في سن الثمانية والثلاثين. كما لا يتفق معظمنا على الأشكال والمدد الزمنية التي تطلبها تكريسه المنتشي. إن اختياره أن يزيل كل أبسطة الحوائط المزخرفة من غرفته وأن يمتنع عن تناول كل الصلصات، واليخني، والفاكهة، وأي شيء يثير شهيته هو شيء، لكن أن يوبخ أخته على مداعبتها لأبنائها وأن “يتخلى” حرفياً عن أصدقائه، أو يراهم فقط إذا كان يرتدي حزاماً من الصلب مدعماً برؤوس حادة، فهذا شيء آخر تماماً. معظم القراء المحدثين لهذا الكتاب سيفتقرون إلى أي مفهوم عملي “لإماتة الجسد”، لكننا إذا استعدنا هذا المفهوم، سيكون ميلنا اللاهوتي هو تجاه “النشوة الداخلية” التي تدفقت من الإصلاح بدلاً من النشوة الخارجية التي سبقته.
باسكال إذاً، هو أبعد ما يكون عن مفهومنا اليوم الخاص “بشهرة الولادة الثانية” التي في حماستها نتحمس جميعنا لكننا نظل دون تغيير. إن حياته وفكره يمثلان حقيقة واضحة – واقعية بصورة عنيدة ومؤلمة ومجيدة. إن من شأنهما أن يدهشاننا ويدعواننا للتساؤل على مستويات أعمق داخل أنفسنا.
لقد كان امتيازاً لي أن أقرأ باسكال كل عام تقريباً لمدة حوالي ثلاثين سنة، وهناك أربعة أسباب لاستمراري في العودة بفكر ليس بقديم على الإطلاق.
أولاً، يجب أن يحوز باسكال على الإعجاب ويتم اتباعه كمؤمن مفكر تعتبر العبادة بالنسبة له أمراً أساسياً. تم الاستفادة كثيراً من تقواه العميقة والممارسات التي استخدمها. فكانت نشوته عميقة في السر، وكذلك كانت صلاته أيضاً، وقراءته للكتاب المقدس، وتقديمه للإحسان والصدقة. بحسب قول أسرته، كان باسكال يحفظ الكتاب المقدس عن ظهر قلب.
لكن ما يميز باسكال هو السر وراء التقوى والممارسات، كما يذكر في “الذكرى” The Memorial عن “ليلة النار”، المذكورة في بداية هذه المختارات. في مساء يوم الاثنين، 23 نوفمبر 1654، عندما كان في الواحدة والثلاثين من عمره وقد اختبر لتوه اقتراباً وثيقاً من الموت في حادث سيارة، اختبر باسكال لقاء عميقاً مع الله والذي غيَّر مسار حياته بأكملها. إذ استمر هذا الاختبار من الساعة 10:30 مساء وحتى 12:30 صباحاً، فقد استنفد هذا الاختبار اللغة وأرهقها فلم يستطع باسكال إلا أن يضع له عنواناً من كلمة واحدة: “نار“. لكن هذا الاختبار كان ثميناً للغاية وحيوياً بالنسبة له حتى أنه خاط تسجيلاً له على مخطوطة رِقِّية داخل بطانة صدرته – وعلى مدى الثماني سنوات التي تبقت من حياته كان يهتم بأن يحيكها داخل كل صدرة جديدة يشتريها.
يُطلَق على هذا الاختبار في بعض الأحيان “تجديد باسكال الثاني“، الذي تبع الأول الذي حدث في رون عام 1646 عندما كان في الرابعة والعشرين من عمره. لكن من الواضح أنه كان اللحظة التي توهج فيها بالنيران الإلهية التي التهمته بقية سنين حياته الأخيرة.
هل يمكننا أن نفهم تماماً ما اختبره باسكال؟ وهل نتوقع أن يتكرر هذا بصورة طبق الأصل في حياتنا الشخصية؟ كلا بالتأكيد. لكن هل نجسر على أن ندرس العقول المتجمدة كالجليد لعدد لا يُحصى من المسيحيين المفكرين اليوم، ومع ذلك لا نتوق لنوع من المخافة المميزة للرب؛ لنوع من المعرفة العملية للأبعاد الروحية للحرب الذهنية؛ نوع من الحماسة التي لا تقاوم التي تُظهِر حقيقة اختبار الله بطريقة مباشرة، وفورية، ولا يمكن الشك فيها؟ في عصر يتم فيه وضع اتجاهات المعرفة بين التقنيين والمتعصبين، بين خصيان المعرفة ومحتالي المعرفة، فإن الفكر المسيحي المميز – والعبادة القوية، والموضوعية، والنقدية، لكن الملتزمة، تكون نادرة للغاية.
ثانياً، يجب أن يحوز باسكال على الإعجاب ويتم اتباعه بسبب شجاعة عزلته في عمله طوال حياته. من ناحية، لا يمكننا إلا أن نصاب بالذهول بسبب كل ما كان يمكن أن يكون عليه ويكون لديه. حب الصداقات، والثقافة، والمتع، وكل امتيازات الحياة الموسرة كان يمكن أن تكون ملكاً لباسكال، بالإضافة إلى الصلات البارزة والآفاق المبهرة التي انفتحت أمامه بسبب عبقريته وشهرته – ناهيك عن عرض بطلب يد فتاة شابة قيل أنها “الأفضل في المملكة بسبب الثروة والميلاد والشخصية”. أن يكون له مثل هذه المواهب، والأصدقاء، والفرص في عصر “الملك الشمس” Sun King في فرنسا (لويس الرابع عشر)، كان هذا يمثل أفقاً ذهبياً لا يتخلى عنه إلا القليلون. لكن، مثل فرانسيس الأسيزي Francis of Assisi من قبل، تخلى عنه باسكال، وبفرح.
بالإضافة لذلك، عندما تحول باسكال من رياضياته إلى الدفاع العام عن الإيمان وعن بورت رويال، وعن مجتمعه الشخصي على وجه الخصوص، فقد تحول مما هو مألوف إلى ما يُسخَر منه، ومما هو ناجح إلى ما هو فاشل. دفاع باسكال عن الجانيستيين في “الخطابات الإقليمية” كان ماهراً بصورة رائعة ومؤثراً بدرجة عالية في حمل الرأي العام على تغيير اعتقاده. لكنه بعد عامين مرهقين، خسر المعركة. فقد كان الجمع بين البابا، والملك، واليسوعيين قوياً للغاية. فتم تحريم الخطابات، وأحرقت إحدى النسخ علنياً، وكانت هناك مذكرة لاعتقاله، وحتى دير بورت رويال دي شامب كان سيتم هدمه حجراً حجراً، ونبش سلة المحذوفات، بأوامر من الملك لويس الرابع عشر. وكما كان الأمر فيما بعد مع اسحاق نيوتن Isaac Newton، عندما تحول من الفيزياء إلى اللاهوت، كان كثيرون من المتشككين مستعدين بسخريتهم واحتقارهم. يسخر فولتير لكوندورسيه Condorcet بالقول، “لن أضجر أبداً من القول أنه منذ حادث السيارة في نيولي بريدج، قد تلف عقل باسكال!”
إن شجاعة باسكال في عزلته يمكن رؤيتها فوق كل شيء في صراعه الطويل مع المرض ووعيه المتزايد بموته المبكر. فإذ كان سقيماً كطفل ومريضاً كصبي، حارب باسكال صحته المعتلة طوال حياته. كتبت أخته جلبرت، “في بعض الأحيان كان يخبرنا أنه منذ سن الثامنة عشرة لم يُمضِ يوماً واحداً بدون ألم”. إن طاعته بفرح لإرادة الله تشع عبر “صلاته لطلب أن يستخدم الله المرض في حياته بطريقة ملائمة”، المذكورة في نهاية هذه المختارات. لكن حدة شجاعة باسكال وتجاربه قد ظهرت في تعليق جلبرت: “الله الذي منحه الذكاء اللازم لمثل هذا الإنجاز الضخم، لم يعطه صحة تكفي لإكماله”.
إن جيلنا هو الجيل الذي تُعتبر المعرفة بالنسبة له مفتاحاً للقوة، والتعليم هو جواز سفر للثروة والإنجاز، والتفكير والعلم المسيحي يشبهان غالباً الحرباء في التكيف مع البيئات المحيطة بهما. وهكذا تقف حياة باسكال عبر رحلتنا كشهادة صريحة على الشجاعة، والدعوة، وكإمكانية أسمى لنا جميعاً.
ثالثاً، يجب أن يحوز باسكال على إعجابنا وأن يتم اتباعه بسبب جرأته واتزان تفكيره. عندما نقرأ باسكال، نجد أن أفكاره ليست فقط عميقة وجديدة، بل أن بها قوة غريبة على إثارة أفكار أبعد بل روابط أكثر داخلنا. من أثر ذلك تدمير الطرق القديمة وهدم نماذج وأنماط مشوشة إلى أن تفهم عقولنا شيئاً عن الكثافة الخصبة لأفكاره.
ماذا يمكن أن يعني أن تعيش بعقل مثل شعاع الليزر أو أن تعمل تحت مثل هذا الوابل من الأفكار والمفاهيم؟ بالنسبة لي، تبرز أمامي سمتان لتفكيره. الأولى هي أصالة أفكاره الفردية (مثل وصفه الرائع “للإلهاء” البشري وتحليله السابق لعلم الاجتماع بخصوص أثر المجتمع على الحق). السمة الثانية هي المدى البانورامي لرؤيته للحق المسيحي وعلى وجه الخصوص توازنه الجريء والدقيق في تصريحاته بشأنه.
المشروعات الفكرية اليوم تشبه الأكواخ، وليس الكاتدرائيات. ففي راحتها البسيطة تبني في أمان ما يفتقر إلى العظمة. لكن باسكال على النقيض من ذلك، على الرغم من معرفته بأن أيام بنائه كانت معدودة، يُظهر في كل من تصميماته المرسومة والعمل الصغير الذي يفعله ألفة نادرة ليس فقط مع مُعلمي بناء الأفكار مثل لينكولن، ساليسبري، وتشارتريز بل مع مناقضيهم في الأفكار مثل أوغسطينوس.
ليس هذا معناه أن باسكال كان بانياً لنظام بحسب نظام أرسطو أو الإكويني. فبالنسبة له، أنظمة الفكر البشري ما هي إلا إلهاء آخر إضافي عن الحق. كانت الشكوكية هي واحدة من أدواته المفضلة، والأسئلة الفعلية التي واجهها لم تكن مجردة أو نظرية بل وجودية existential وملموسة. فإذ قد وُلد ولديه معرفة مباشرة بمحنه الشخصية، كان فهمه للقلب البشري يواجه بجرأة المأزق الأوليّ للوجود البشري بأكمله.
تندر أيضاً اليوم موهبة باسكال المميزة في الاتزان. بلا شك أن هذه الموهبة كانت خاصة به بالكامل، رغم أنها ربما تكون قد تطورت جزئياً مقابل خلفية من بدائل زائفة كانت معروضة في أيامه. يبدو أن قدره دائماً كان أن يقع في المنتصف – بين المتعصبين والمتشككين، بين الكاثوليك والبروتستانت، بين الملك وأتباع كنيسته الرومانية الكاثوليكية في فرنسا Gallican والبابا وأتباع مينتانوس الفائقين ultra-montanists (وهو متحمس من فريجية من القرن الثاني، زعم أن الروح القدس، الباراقليط، سكن فيه، ويعمل به كأداة لتنقية وتوجيه البشر في الحياة المسيحية – المترجم.)، بين اليسوعيين والتحرريين Libertines، بين مونتان وأبكتيتوس، بين الرهبنة والمدنية، وبين المعبد والمعمل.
كانت استجابة باسكال للوقوف بين التطرفات المتناقضة ليست هدنة الجبان أو مجرد تقسيم الخلافات. فإذ قد استغل هذا التوتر بأقصى ما يمكن، قام باسكال بعرض الوجود البشري نفسه من ناحية توتراته الأكثر عمقاً – على سبيل المثال، البشر، الذين ليسوا ملائكة ولا وحوشاً، قد وقعوا بين النهائي واللانهائي، بين الحقارة والعظمة، بين العقل والقلب، وبين العقل والقوة.
بالنسبة لباسكال، هذه الثنائيات ليست مطلقة، ولكنها حقيقة عالم ساقط، وهو يستخدمها بذكاء ليصيغ أسلوباً يطلق عليها في بعض الأحيان “جدلية التناقضات” dialectic of the contradictions. فيقوم مراراً وتكراراً بهدم الحجج بعرضها من ناحية التناقضات القطبية التي تلغي إحداها الأخرى عندما يتم تتبع منطقها حتى النهاية. ثم فجأة، يظهر أن التناقضات يمكن توفيقها فقط عن طريق إدخال حقيقة ثالثة، والتي تحوي أنصاف الحقائق للتطرفات الخاطئة. فالإنجيل وحده، على سبيل المثال، يفسر كل من حقارة الإنسان وعظمته. هذه الحقيقة الثالثة – الحق المسيحي – ليست توليفة ناتجة عن أخطاء الفرضية ونقيضها، لكنها تسبق وتكمن خلف الوضعين الآخرين، اللذين تنمو عيوبهما مباشرة من جهلهما أو رفضهما لحقها الكامل.
وهكذا تعني الثنائية أن البشر “واقعون” في مأزق، أكثر من كونهم قادرين على خلاصهم الشخصي. لكن بالنسبة لباسكال، فإن “وقوعهم” لا يقود إلى العبثية، مثل آراء الوجوديين بشأن “الرمي” أو الإلقاء throwness في القرن العشرين. بل يصبح سقطة تتجاوز العقل والكفاءة الذاتية البشرية مما يهيء الخاطيء الساعي لكي يتطلع إلى ما هو أبعد من نفسه، إلى الله.
أخيراً، يجب أن يحوز باسكال على الإعجاب وأن يتم اتباعه بسبب تكريسه الفائق للدفاع عن الله وعن حقه. إذ عرف الله بعمق شديد، كانت رغبته العميقة هو أن يجعل الله معروفاً للآخرين، وكانت النتيجة هي التزامه التكريسي بالدفاعيات عن الإيمان المسيحي، أو فن الإقناع المسيحي.
تواجه الدفاعيات المسيحية أزمة اليوم. فإذ قد تم فصلها عن خلفيتها الإرسالية والتبشيرية، أصبحت واقعة بين الاتجاهين المتناقضين للحركة المتحفظة الواسعة (“لا تُقنع، بل بَشِّر!”) والحركة التحررية الواسعة (“لا تجادل، بل حاوِر!”). في هذه العملية، كانت الدفاعيات إما يساء فهمها على مدى واسع (باعتبارها دفاع حقير) أو يتم تعريفها بطريقة ضيقة (كدور دفاعي defensive خالص) ويتم حصرها في حدود ضيقة نقدياً (لأنواع معينة من الجدل ومستويات معينة من التطور التعليمي). وهكذا فإن اهتمامها وقدرتها على إقناع أناس حقيقيين قد فُقِدت تقريباً.
لا أحد يسعى لاستعادة غرض وقوة الدفاعيات يجب أن يتجنب باسكال. ليس فقط أنه مختلف بطريقة جديدة عن المناهج غير الفعالة التي مرت على الدفاعيات في أيامه كما في أيامنا، بل أنه واحد من أبرع المقنعين في التاريخ البشري. كان وجود الله أمراً شديد الأهمية بحيث لا يمكن تركه للأدلة غير المقنعة، والمنطق الملتوي، والمجادلات المشكوك فيها للاهوتيين والفلاسفة. لقد كان هذا الأمر يستدعي منهجاً جديداً مشكلاً بسمة الهدف (الإقناع، أو “انفتاح العقل”) كما وبطبيعة الأداة (العقل غير المؤمن أو المغلق).
هناك عدة سمات لدفاعيات باسكال من الجدير ملاحظتها، بعيداً تماماً عن براهينه الفعلية وأسلوبه الجديد الشهير. في المقام الأول، شعوره بالاتضاع ملحوظ ومنتشر في كل إقناعه. دفاعياته، مثل الفلسفة، يمكن تعقبها وإرجاعها إلى المنافسات “الجدلية” المبكرة (“منافسات الصراعات الذهنية”)، وكثير جداً من الدفاعات تظهر ميلاً أنانياً، “الصراع المستمر للفوز” الذي اعترف به سي إس لويس C. S. Lewis في نفسه.
لكن باسكال، على النقيض من ذلك، أصبح متضعاً بصورة غير عادية بهذا الشأن، رغم أن نضجه المبكر كصبي تركه بعجرفة طبيعية عَلِم باسكال أنها كانت الخطية التي تُحدق به. فكان يرفض دائماً أن يتم رسم صورته، أو أن يوضع نقش مرثاة على ضريحه، ولدهشة أصدقائه، لم يكن يُظهر (بحسب كلمات أخته) “أية شهوة للشهرة!” أو صرف على براعته الحسابية. كان باسكال يمسك في يده عند موته قصاصة من الورق كان يُرى كثيراً وهو يقرأها. كان مكتوب في جزء منها: “من غير العدل أن يربط أحد نفسه بي، حتى لو بسرور وطواعية. فإنني سأُحبِط أي إنسان سببتُ له أن يتحمل تلك الرغبة، كما أنه ليس لديّ ما يرضيه. ألستُ مستعداً للموت؟ إذاً فموضوع ارتباطه سوف يموت”.
لكن هذا الاتضاع، الذي كان في تناقض حاد مع معاصره، ديكارت، كان أكثر من فضيلة. لقد شكَّل دفاعياته بطريقة عملية. مثل سورن كيركيجارد Søren Kierkegaard لاحقاً، كان باسكال يعرف جيداً أن الشأن الأساسي للخاطيء لم يكن معه بل مع الله. لذلك، ككاتب للدفاعيات، كان لابد له أن يظل بعيداً عن الطريق بقدر الإمكان، فيعمل (بحسب تعبيرات “الحاضنات الدنماركيات”) مثل قابِلة (داية) أو ملقِّن على المسرح أكثر مما يعمل كبطل رواية مقتحِم. من هنا جاءت المواربة المتعمدة لحجج كل منهما. وإلا، فإن مناصرة الحق تُهان بسهولة شديدة لتصبح انتزاع الحق.
هناك سمة أخرى مميزة لدفاعيات باسكال وهي التزامه الشجاع بها كمشروع استراتيجي. كثيراً ما ينسى الناس أن Les Pensées “أفكار” هي غير كاملة؛ فهي فقط رسومات المخطِّط لمشروعه “دفاع عن الديانة المسيحية“، وهو دفاع بارز عن الإيمان المسيحي لم يكتمل. تم تصميمه أولاً باسم “ثمانية آراء قوية لبواتو Poitou الذي لم يؤمن بالله”، وتم وضعه في خطوط عريضة ثم تدوينه باختصار وعلى عجل بعد أن تألف بالكامل في العقل – مثل كتب الكسندر سوليزنتسين Aleksandr Solzhenitsyn في معسكرات العمل.
لذلك فإن كل ما لدينا هو أجزاء مقتطفة، مربوطة معاً في حزم متنوعة، لا يمكننا إلا أن نخمن فقط شكلها النهائي. من المتصور إذاً أنه لو لم يكن مريضاً، لما كان باسكال قد كتب أي شيء إلا بعد إنهائه للعمل بأكمله، لذلك فإن مختارات “أفكار” التي لدينا هي “أجزاء وقطع” مدونة رغم أنف المرض الموهن والموت الوشيك. مرة أخرى، كانت شجاعة باسكال جلية للغاية: إذ أن دفاعه كان منطلقاً ومقنعاً بواسطة الإيمان.
يقول النقاد في بعض الأحيان أن حجج باسكال لا تُقنع أحداً اليوم. لكنهم ينسون أن آلافاً ينجذبون ويقتنعون “بأجزاء وقطع” باسكال اليوم أكثر مما حدث عندما تم إصدار “أفكار” لأول مرة – بل أكثر كثيراً في الحقيقة ممن ينجذبون إلى البراهين التقليدية. لكن الأهم من ذلك، إنهم ينسون أنه بينما حاز باسكال على جاذبية عالمية تقريباً، فإنه لم يكن يؤمن بالبراهين التي تصلح لكل زمان بل بالحجج المقنعة “التي تُعِدّ للانفتاح” المصاغة لأشخاص وأوقات وأماكن معينة. يرجع الأمر إلينا اليوم أن نعيد اكتشاف تقليده “صناعة الأحمق” fool-making ونعيد تطبيقه في خدمة نفس إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب – بالتأكيد “ليس في خدمة الفلاسفة أو المتعلمين”، بل الكائن الذي يكون He Who Is. باختصار، إله النار.
في إحدى المرات عندما كان وينستون تشيرشل Winston Churchill يقيم مع أصدقائه في جنوب فرنسا، جلس في مساء بارد وأخذ يحدق في نار المدفأة. كانت جذوع الصنوبر تُشوى وتهسهس وهي تحترق. عندها دمدم بصوته المألوف قائلاً: “إنني أعرف لماذا تهسهس الجذوع. فأنا أعرف معنى الاحتراق”.
يستهلِك الرجال والنساء ويُستهلَكون بواسطة كثير من الأشياء، البعض منها فقط يخيفهم ويذلهم. أما في الشخص العظيم والغاية العظمى، فأي شيء يستهلكه يمكن أن يصبح استحواذاً مهيباً ومصيراً بطولياً. لكن مع باسكال، كما مع أعظم القديسين المسيحيين، نرى الذروة – كائناً بشرياً مشتعلاً بمجد الله كما لو كان مُلتَهَماً بالنار الإلهية. بالطبع، علينا فقط أن نتبع باسكال طالما أنه تبع هو المسيح. لكن مجرد أن نفعل ذلك هذا معناه أننا إن عاجلاً أو آجلاً سنصل إلى المكان الذي لابد فيه أن نخلع نعالنا، لأننا نحن أنفسنا نكون واقفين على أرض مقدسة.
أوس جينيس
Os Guinness