تعليق مُحرر النسخة الإنجليزية حول بليز باسكال Blaise Pascal وأهمية كتاباته المسيحية

كثيرون من الناس في المجتمع المدني اليوم يؤمنون أنه لكي تصبح مسيحياً فهذا يعني ارتكاب انتحار فكري. فهم يعتقدون أنه لكي تقبل عقائد المسيحية فأنت تنضم إلى جموع من غير المتعلمين والحمقى المؤمنين بالخرافات.

لكن باسكال يدحض هذا الاعتقاد. فقد كتب لكي يوصل الإيمان المسيحي للمتشككين، ولغير المبالين، وللعدائيين. كان باسكال عبقرياً في الرياضيات، وعالماً في الفيزياء، ومفكراً دينياً مرموقاً.

 

حياته

ولد بليز باسكال (1623- 1662) بوسط فرنسا، في مدينة كليرمونت، وهو ابن مسئول حكومي. لكونه مفكراً متميزاً، كان يُعتبر بواسطة الكثيرين أنه أعظم كُتاب النثر الفرنسيين. حيث توفيت أمه عندما كان طفلاً في الثالثة من عمره فقط، فقد ربته أخته جيلبرت، التي تكبره بثلاث سنوات. كانت أخته الصغرى جاكلين، التي تصغره بعامين، هي رفيقته المقربة إليه.

نشأ باسكال في عصر الإيمان الديني البديهي. كان مذهب الشكوكية skepticism  لمونتان Montaigne، والمنهج التجريبي العقلاني rational empiricism لديكارت Descartes، والإلحاد atheism لفانيني Vanini، قد بدأ يغوي عقول البشر نحو روح العلمانية الحديثة modern secularism. رغم أن الملوك الكاثوليكيين في فرنسا منعوا البروتستانتية Protestantism من أن يُصبح لها تأثيراً شعبياً في البلاد، إلا أن التوترات الدينية القوية كانت لاتزال تعمل. فبينما سعى اليسوعيون Jesuits لاستيراد منطق ليبرالي مضلل liberal casuistry، كانت هناك حركات دينية أخرى قوية للتجديد تزداد في الأهمية، متأثرة بروحانية كل من Francis de Sales, Berulle & Vincent de Paul. وقد عبَّر رئيس دير سانت سيران، Jean Du Vergier de Hauranne، بصفة خاصة عن رغبته المتقدة في التجديد الروحي. كان هو نفسه قد تأثر باللاهوتي الدنماركي كرنيليوس جاسن Cornelius Jasen، الذي أصبح فيما بعد أسقف إبرس Ypres. إذ تم سجنه لمدة خمس سنوات بواسطة الحكومة الفرنسية، توفى رئيس دير سانت سيران بعد إطلاق سراحه بوقت قصير، لكن ليس قبل أن يقع والد باسكال، Etienne، تحت تأثير اثنين من تلاميذه.

عندما كان بليز Blaise في السابعة من عمره، ترك والده منصبه الحكومي في كليرمونت وجاء إلى باريس. هناك وقع أبناؤه، رغم أنهم قد تعلموا منه شخصياً، تحت تأثير التفكير الحر، الروح المتشككة لمونتان، وهناك أيضاً تعرض باسكال للحياة الدنيوية والعصرية. لفترة قصيرة، ترك والد بليز باريس إلى المنفى، بسبب ازدرائه بالكاردينال ريشيليو Cardinal Richelieu. بعد ذلك تم إعادته وتعيينه مفوضاً ملكياً مسئولاً عن الضرائب في نورماندي.

فتنت الدراسات العلمية بليز. ففي سن السادسة عشرة قدم أول دراساته في الرياضيات حول خصائص أقسام الشكل المخروطي. وفي عمر التاسعة عشر بدأ بليز في العمل على إعداد آلة حاسبة صممها لمساعدة والده في المهمة المرهقة لتحديد الضرائب وجمعها. بعد سنوات كثيرة من التعديلات، عرض بليز “آلته الحسابية” للبيع، لكن سعرها الباهظ منعها من أن تحقق نجاحاً مالياً.

 

بعد حادثة تعرض لها عام 1646، أصبح والد باسكال – الذي كان يرعاه كاهن صار من المؤيدين لحركة تجديد جانسين Jansenist – مقتنعاً أن “الديانة المسيحية تلزمنا أن نعيش لأجل الله وحده وألا يكون لدينا أي هدف آخر سواه”. (حركة جانسين عبارة عن مبادئ لاهوتية نادى بها كورنيليس جانسن، التي تؤكد على التعيين المسبق predestination، وتنكر الإرادة الحرة، وتنادي بأن الطبيعة البشرية غير قادرة على الخير. وقد تمت إدانتها باعتبارها هرطقة من قبل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية – المترجم.) في ذلك الوقت، أعلنت جاكلين، أخت بليز، عن طلب واضح للدخول في تعهد ديني (رهبنة). مع كل هذا الاهتمام الأسري بالدين، بدأ بليز في دراسة الكتاب المقدس بجدية، رغم استكماله لتجاربه العلمية. في عام 1646 أعاد إنتاج التجربة المعروفة لتوريسيلي Torricelli عن وجود الفراغ vacuum. فيما بعد قام بإجراء التجربة بقياس ضغط الهواء على قمة بوي دي دوم Puy de Dome لكي يوضح انخفاض ضغط الهواء عند الارتفاع.

رغم أن جاكلين مُنعت بواسطة والدها من دخول هذا التعهد، فقد سُمح لها أن تقوم بزيارات دورية إلى دير بورت رويال دي كامبس Port Royale، جنوب باريس. توفي إتيان عام 1651، وبدأ بليز يفكر بجدية أكثر في الحياة بعد الموت. بعد أن تركته جاكلين لتدخل الدير، ألقى بليز بنفسه مرة أخرى في المجتمع الدنيوي لباريس. عندما عارضته أخته في ذلك بقوة، أدرك بليز كم كان مرتبكاً ومتحيراً حقاً. وفي ليلة 23 نوفمبر 1654، بينما كان يقرأ الأصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا، اجتاز اختباراً انتشائياً. بصورة غامضة، أصبح فراغ حياته الماضية ممتلئاً بحضور الله داخله. إذ بدأت النشوة في الزوال، بحث بسرعة عن ورق وكتب “الذكرى” (the Memorial) (والتي أعيد إنتاجها في بداية هذه المختارات). قام بصنع نسخة على ورق نفيس parchment، والتي خاطها داخل بطانة معطفه، وهي عادة كان يكررها في كل مرة يستبدل فيها ثيابه خلال الثماني سنوات التالية حتى موته. لكنه لم يخبر أي أحد، ولا حتى أخته جاكلين، بما حدث له في تلك الليلة.

في يناير التالي قام بأول عدد من الزيارات إلى بورت رويال. كان المجتمع هناك يبحث عن تجديد روحي عن طريق الاجتهاد بعيش حياة نبذ الذات والتكريس لله كاستجابة لنعمة الله الرائعة التي لا تقاوَم. وجد باسكال هناك حياة صارمة أخلاقياً كما كان يسعى من قبل أن يجعلها صارمة فكرياً. من خلال معارفه في بورت رويال، أصبح بليز عالقاً في جدل بين أب اعتراف الملك، الأب أنات Annat، وقائد جماعة الجانسينست، أنطوان أرنولد Antoine Arnauld. كان أرنولد قد أصدر رسالتين لمساندة جانسين، الذي تم إدانة عمله بواسطة روما باعتباره هرطقة عام 1653.

بعد نقاش مطول، استنكرت كلية لاهوت السربون كتابات أرنولد عام 1656. فقرر أرنولد أن يأخذ قضيته إلى الجمهور الفرنسي، وطلب من باسكال أن يساعده. بمعاونة صديقين قاما بتوفير اقتباسات وعبارات ملائمة، بدأ باسكال في كتابة خطابات مجهولة المؤلف، ثمانية عشرة منها تمت كتابتها ما بين يناير 1656 ومارس 1657. خمس من هذه الرسائل تم إعادة تحريرها بشكل مختصر في هذه المختارات. وقد نالت استحساناً وفرحاً كبيراً من الجمهور حيث تمت كتابتها بصورة واضحة ومفهومة للغاية، وكما زعم فولتير Voltaire، أقامت باسكال باعتباره أفضل كاتب نثر في فرنسا. ومع ذلك ظلت الهوية الحقيقية للمؤلف مخفية حتى عام 1659.

هاجم باسكال أساس الجدل المخادع اليسوعي بأكمله، بانحلاله الأخلاقي وتحفظاته الفكرية المعروفة باسم “الاحتماليات” probabilism (وهي نظام اللاهوت الأخلاقي الذي ينطبق عندما تكون مشروعية فعل ما غير مؤكدة، عن طريق السماح للفاعل باتباع الرأي الذي يدعم الحرية الشخصية إذا كان هذا الرأي محتمل بقوة، على الرغم من أن رأياً آخر مختلفاً قد يكون هو الأكثر احتمالا – المترجم). كان الموقف اليسوعي (الجيزويتي) واقعياً بشأن الطبيعة البشرية، ولكنه جاهل بنعمة الله. هاجم باسكال هذا الأمر ببراعة. على النقيض من ذلك، أصر الجانسينيست على الطبيعة المتطرفة للتجديد، والحاجة إلى التوبة اليومية عن الخطية، وإلى نعمة يسوع المسيح العظيمة. بالنسبة لباسكال، بدا هذا التوكيد صحيحاً بالنسبة لاختباره الشخصي للتجديد وحياة النعمة الجديدة.

في سنواته الأخيرة، بدأ باسكال في الكتابة في علم الدفاع عن المسيحية apologetic. في عامي 1657، 1658، قام بحماس بتجميع هيكل ضخم من التعليقات التي صممها لأجل هذا الغرض. وقد تم تصنيفها في واحد وعشرين حزمة liasses والتي كانت هي أقسام عمله Pensées (أفكار). لكنه كان يُعاق باستمرار بالمرض، الذي لازمه طوال حياته منذ أن كان في عمر الرابعة والعشرين وحتى وفاته. في السنوات الأخيرة من حياته كان موهناً بصفة خاصة، وربما في عام 1660 قام بتأليف “صلاة للاستخدام الملائم للمرض” التي ننهي بها مختاراتنا. في عام 1661، اندلع صراع مرير بين السلطات وبين بورت رويال، مما أدى إلى حل الجماعة وإلى موت أخته جاكلين. في العام التالي، في 19 أغسطس 1662، توفى باسكال. كانت آخر كلماته التي تم تَذكُّرها هي كلمات “الذكرى” The Memorial: “يا إلهي لا تتركني أبداً!”

 

فكر باسكال

بعد تجديد باسكال في عمر الحادية والثلاثين، يسجل باسكال كيف توهج فكره بالقناعة المتقدة بكونه مغموراً بالنور، وهو يقين تملكه والذي منحه مستوى جديداً من المعرفة. عظمة النفس البشرية، على الرغم من حقيقة الخطية البشرية، استحوذت عليه بقوة جديدة. على مدى سنوات كثيرة كان قد اختبر الله فقط كمجموعة من المفاهيم. لكنه الآن يقف أمام حضور الله وحقيقة الله نفسه، نفس الإله الذي ظهر من قبل لإبراهيم وإسحاق ويعقوب. رأى باسكال عندئذ “إله الفلاسفة” كمجرد إله نظري، وليس الكيان الشخصي الذي يمكن أن يستمتع معه بعلاقة مدى الحياة. كان هذا ما أعطاه عندئذ “فرحاً، فرحاً، فرحاً، دموعاً من الفرح”. عندها دخلت إلى نفس باسكال “يقينية، وفرح قلبي، وسلام”. لقد رأى أن الإنسان قد وُهب عطية أن يكون لديه بُعد جديد في المعرفة، الدخول إلى مستوى جديد من الوجود.

خلال السنوات الثمانية القصيرة المتبقية من حياته، قام باسكال بإنتاج عمله “أفكار”. رأى باسكال بوضوح أنه من خلال العقل وحده لا يستطيع الإنسان أن يأتي إلى فهم كل الحقيقة. لا تستطيع المعرفة أن تتيقن من الكل the whole؛ بل يمكنها فقط أن تستبدل الاكتمال wholeness بالتظاهر بالكل. بل الحقيقة أن الكل يتم استبداله بالاختزال reduction. تحدى باسكال الاختزالية التي رآها في كتابات رجال مثل مونتان. لقد رأى أنه كانت هناك مستويات مختلفة من المعرفة على مسافات لانهائية من بعضها البعض. فكما أن عقل الإنسان مختلف بصورة لانهائية عن المادة matter، هكذا نفس الإنسان هي على بعد لانهائي من الله. في “الأفكار”، يرى باسكال بوضوح تام لا لبس فيه الحاجة لأشكال المعرفة الملائمة. فيقول:

المسافة اللانهائية بين الأجساد والعقول ترمز إلى المسافة الأكثر لانهائية بصورة لانهائية بين العقول والمحبة؛ لأن المحبة فوق طبيعية.

كل مجد العظمة ليس له بريق بالنسبة لأناس منغمسين في المساعي الفكرية.

عظمة المفكرين تكون غير مرئية للملوك، والأغنياء، والزعماء، ولكل من هم عظماء بحسب الجسد.

عظمة الحكمة، التي هي لا شيء إذا لم تكن من الله، تكون غير مرئية للعقل الجسداني وللمفكرين. وهكذا توجد ثلاثة أنظمة تختلف في النوع.

العباقرة العظام لهم سيادتهم، وبهاؤهم، وعظمتهم، وانتصارهم، ومجدهم، وليسوا في حاجة إلى العظمة الجسدية، التي ليست لها علاقة بمجالهم. فهم لا يُرون بالعينين، بل بالعقول، وهذا يكفي.

القديسون بالمثل لهم سيادتهم، ومجدهم، وعظمتهم، وانتصارهم، وروعتهم، وليسوا في حاجة إلى العظمة الجسدية أو الفكرية، التي ليست لها علاقة بمجالهم، لأنها لا تضيف ولا تنقص منه. إنهم يُرَون من الله والملائكة، وليس من الأجساد أو العقول الفضولية. الله يكفيهم.

إذا كان الأمر كذلك، فإن حقيقة أن يسوع المسيح جاء إلى هذا العالم بدون ثروات وكرامة، إذ كان لديه مجده وقداسته الخاصة، تعني أننا يجب ألا نتعثر من اتضاعه وصبره. فهو لم يملك بعظمة حسية، كما أنه لم يقم باختراعات فكرية. إذا كانت حياة المسيح بمثل هذا النظام المختلف، لماذا يُلصق به العار بسبب اتضاعه؟ إن النظام الأخلاقي يختلف بصورة لانهائية عن المستويات الحسية أو الفكرية للبشر. وحيث أن كلاً من هذه الأنظمة مختلف نوعياً، لابد أن يستمر كل منها في أن يكون له الطريقة الملائمة لمعرفته.

لكن شقاء الإنسان هو أنه ضال، وأنه لا يستطيع أن يجد الطرق الملائمة للمعرفة ببساطة باستخدام عقله. الحقيقة أن باسكال كان مندهشاً إذ وجد عدداً قليلاً من الناس للغاية في أيامه تفحص وتدرس فعلياً طبيعة الإنسان. ربما كان هذا أيضاً بالمثل، إذ رأى أن الإنسان واقع في توتر جدلي، “قصبة مفكرة” يكمن نبله في فكره، لكن سعيه للحق عبثاً وبالتالي سعيه للسعادة تم إحباطه. يجادل باسكال بالقول بأننا نرغب في الحق، لكننا لا يمكن أبداً أن نتيقن أننا حصلنا عليه. إننا نحتاج إلى السعادة، لكن مرة أخرى لا يمكننا أبداً أن نتيقن أننا وصلنا إليها. وهكذا تتم هزيمة العقل وإعاقته من كل الجوانب، وأساساته غير يقينية. بالمثل، نحن نتوق إلى العدل لكن ليست لدينا أية معرفة حقيقية به. يرى باسكال إذاً أن البؤس هو مفتاح حياة الإنسان. “باطل الأباطيل” هو التعبير الذي يصف به كاتب سفر الجامعة الحالة البشرية. إننا أشقياء وبائسون، لكننا نرى أيضاً عظمتنا، وعندما نرى شقاءنا، فهذا يجعلنا أكثر بؤساً.  

إلا أن الإنسان مع الله، يمكن أن ينال الإيمان، وقد رأى باسكال أن الإيمان يرى أبعد من محدوديات العقل. يمكن للإيمان أن يرى عبث الفلسفة الخالصة، سواء كانت أفلاطونية Platonist، أو أبيقورية، أو رواقية. بالنسبة للمسيحي، يرى الإيمان ويصف الحالة البشرية البائسة كما لا يستطيع أي شيء آخر أن يفعل. التعبير المسيحي عن الخطية – عن ثنائية الإنسان – يفكر في الإنسان كما لا تستطيع أية فلسفة أخرى أن تفعل. إننا نواجَه بالزعم المسيحي ولابد لنا إما أن نقبله أو نرفضه. عندما نرى أن العقلانية نفسها هي شكل من محبة الذات، بل في الواقع التمرد على الله، إذاً نحن لدينا منظور جديد بالكامل لانهيار وانحلال عقل الإنسان. يعلن الكتاب المقدس حقيقتين عظيمتين: أن الإنسان ساقط، لكنه قد افتُدِي.

في مركز هذه المزاعم يقع زعم أكبر ليسوع المسيح بكونه هو فادي البشرية. هذا مبدأ يفسر كلاً من حالة الإنسان البائسة وفداؤه المحتمل. كما أنه مبدأ يتسق جيدا مع التجربة الشخصية.  لأنه حتى رؤية الله، الخفية والمعلنة، تذكرنا باستمرار بالتباسنا وثنائيتنا – أننا ساقطون ومع ذلك مؤهلون للفداء.

تشير الكتب المقدسة إلى المسيا، كما أشارت حتى كتابات معلمو اليهود (الرابيين). وهكذا فالإنجيل المسيحي له تاريخ طويل ومتصل. لقد تنبأ الأنبياء بمجيئه منذ عصور ماضية. هذا التناقض مع الديانات الأخرى – أي الاستمرارية التاريخية لعمل الله في التاريخ – قد أبهر باسكال بعمق. فالعهد الجديد هو استمرارية لوعد العهد القديم، ويؤكد أن المسيا قد جاء. يسوع المسيح نفسه قد أوضح المعاني الخفية للعهد القديم. إن قبوله والإيمان به يتطلب التجديد، وهنا يتوقف باسكال، لأنه كان يرى بوضوح أنه بينما الإيمان هو أمر عقلاني، إلا أنه أكثر من مجرد عقلاني. إن إيمان باسكال بيسوع المسيح هو أمر مُعطى من الله. فهو يتطلب قفزة، التي يطلق عليها “هزة”، تُثبِت الحياة بعد ذلك أنها حقيقية. (هذه “القفزة” قد أكد عليها سورين كيركيجارد وأطلق عليها The Leap Of Faith  – مُحرر النسخة العربية)

 

بعد قبول الإيمان بعقولنا، لابد عندئذ أن نأخذ الخطوة الأخيرة بتحويل إرادتنا إلى الله، وتهذيب أنفسنا لبناء عادات جديدة. فننتظر ونعتمد على نعمة الله لفعل ذلك. يُنهي باسكال بهذه المرحلة النهائية في دفاعه apologia، بالحاجة إلى التجديد. لأنه إذا كان عدم الإيمان غير عقلاني فهذا لا يعني أن الإيمان هو مجرد شيء عقلاني وليس أكثر من ذلك. إذا كانت إرادتنا وأفكارنا موجهين نحو الله، فإننا سنرى الأمور بصورة مختلفة عن العقلاني الذي لم يتغلب أبداً على الإرادة الذاتية. يمكن للعقل أن يهيء الطريق، لكن إن عاجلاً أو آجلاً لابد لكل فرد أن يواجه حقيقة الصليب. القيام بهذه القفزة إلى الإيمان لا يمكن أن يحدث إلا كهبة من عند الله. وإلا لكنا ببساطة نبرر أنفسنا بواسطة قبولنا الفكري الشخصي للإيمان. هنا هو المكان الذي لابد لنا فيه أن نقبل ونستجيب باتضاع لنعمة الله.

 

تحرير مختارات باسكال “أفكار” Les Pensées

كتب باسكال أفكاره كما جاءت إليه، مؤجلاً ترتيبها إلى وقت لاحق. لذلك عندما مات عام 1662، وجد منفذوا وصيته “مقتطفات الألف ونيف”، كما كتب ابن أخيه بعد ذلك، “بدون ترتيب وبدون تسلسل للأفكار”. لكن باسكال كان يعرف أعمال كُتَّاب الدفاعيات المسيحية الأخرى، لا سيما أغسطينوس، الذي كان مديناً له بصفة خاصة. كما كتب باسكال أيضاً ككاتب للدفاعيات apologist. الحقيقة أن باسكال يطلب منا أن نحكم على دفاعه apologia، ليس فيما يختص بفكره الأصلي، بل بشأن الطريقة الجديدة التي كان يجب ترتيب أفكاره بها، وهو شيء لم يسمح له موته بإكماله في نهاية المطاف.

لقد حاولت في هذه المختارات أن أنتقي من “أفكار“، كما وأن أعيد تصنيف المواد بطريقة تعيد بناء الدفاع عبر السطور التي أشار إليها باسكال نفسه. إنني مدين إلى كثيرين من العلماء الذين ناقشوا مسألة تنظيم مادة باسكال، لا سيما L. Lafoma، وAnthony R. Pugh، اللذان أعادا تصنيف “أفكار” بحسب مخطوطتين من القرن السابع عشر. الإصدار الأصلي لعام 1670 لم يحاول إعادة بناء الدفاع عبر السطور التي أشار إليها باسكال نفسه.

محررو القرن الثامن عشر وحتى القرن التاسع عشر لم يقوموا بمحاولة لتَبَيُّن ترتيب أقرب إلى قصد باسكال الأصلي. في الجيل الأخير، أظهرت الدلائل أن باسكال نفسه قام بتنقيح المواد ووضعها في ملفات من ثمانية وعشرين جزء أو حزمة. الترقيم العربي على يسار النص هو القائمة التي قمنا نحن باختيارها من “أفكار”. وحيث أن هناك طبعات وتسلسلات متعددة قام بها مختلف المحررين، فإن الأرقام التي توجد على الجانب الأيمن من الصفحة تمثل اثنين من أهم الطبعات، وهي طبعة لويس لافوما Louis Lafuma لعام 1962، التي تظهر على يسار القوس، والطبعة الأخرى الأقدم هي لبرنشفيج Brunschvicg عام 1904، على يمين القوس.

 

معاناة باسكال

من الملائم أن نختم هذه المختارات بصلاة باسكال التي يطلب فيها من الله أن يستخدم مرضه كبركة. كان باسكال يصارع طوال حياته. أولاً، صارع باسكال ضد عنف حياته الشخصية الداخلية. هذا هو السبب في أنه انجذب في البداية إلى الاتجاه الرواقي لمونتان وأسلافه. كما كان عليه أيضاً أن يصارع ضد روح العالم وغواياته المغرية بالنسبة لمفكر طموح مثله.

صارع باسكال أكثر من ذلك ضد سمة الإرادة القوية في شخصيته، ومحبته وفي نفس الوقت مشاحناته مع أخته الصغرى جاكلين. كانت الحاجة إلى ترك الذات والتخلي عنها تكمن بعمق داخل باسكال. كان على باسكال أن يدرك، مثلما يجب أن يتعلم أي شخص مكرس للمسيح عاجلاً أو آجلاً، أن معنى الحياة لا يكمن في أنفسنا، بل فقط في المسيح. فالنمو في الاتضاع هو أمر ضروري للنمو في المسيح. تقول جاكلين عن أخيها، “لقد رأيته ينمو شيئاً فشيئاً  حتى لم أعد أعرفه”. هذا هو تأثير التجديد بواسطة إنجيل يسوع المسيح.

“الخضوع التام ليسوع المسيح ولمرشدي” كان نظاماً جديداً للنفس بالنسبة لباسكال، ولكنه قَبِله. في عمله “أفكار”، كتب باسكال: “التقوى المسيحية تدمر الذات البشرية، بينما التهذيب البشري يخفيها ويكبتها” (361). بالنسبة لباسكال، نبذ الزواج، والممتلكات، والمال، والفكر، والسيادة المتعجرفة لإرادة الفرد الشخصية، كانت كلها أمور ضرورية. لقد وضع نفسه للتوجيه الروحي والصداقة النفسية مع مجتمع دير بورت رويال، رغم أنه كان مجتمعاً مشكوكاً في قدراته الفكرية بالنسبة لعبقري مثل باسكال. فلم يستطع أبداً أن يفهم هذا الجانب من باسكال؛ وهكذا من هذه الناحية، ظل باسكال وحيداً. بدون أم، بدون بيت، بدون فهم للمجتمع، ظل رجلاً وحيداً ومتألماً. عاش باسكال في الكتاب المقدس، وفي الصلاة، وفي فحص الذات أمام الله، من هذه الناحية كان بمفرده لكن ليس وحيداً. “سواء كنت بمفردي، أو أمام الآخرين، في كل أفعالي أنا أمام عيني الله الذي لابد أن يحكم على أعمالي، والتي كرستها كلها له” (931- 550).

بعد وفاة أبيه، كتب باسكال خطاباً يتحدث فيه عن الاحتياج الجوهري لرؤية كل الأشياء، سواء في الحياة أو الموت، في شخص يسوع المسيح وسيطنا.

“إذا نظرنا من خلال هذا الوسيط (أي يسوع المسيح) فلن نجد شيئاً في أنفسنا إلا المآسي الحقيقية أو المتع البذيئة. لكننا إذا فكرنا في كل شيء في يسوع المسيح، سنجد كل شيء فيه تعزية وشبع وتهذيب. فدعونا إذاً نرى الموت في يسوع المسيح، وليس بدون يسوع المسيح. بدون يسوع المسيح الموت مريع وكريه، إنه رعب من شيء طبيعي. في يسوع المسيح الموت مختلف تماماً. إنه مُرحب به، ومقدس، وهو فرح المؤمن. كل شيء حتى الموت نفسه يكون حلواً في يسوع المسيح. فلأجل هذا قد تألم. لقد مات المسيح لكي يقدس لنا الموت والمعاناة.”

بعد ذلك، ربما عام 1660، عندما كان باسكال يتألم من تجدد نوبات مرضه الدورية، صلى لكي “يتألم مثل مسيحي”. بهذا كان باسكال يعني أنه لن يُعفى من الألم، كما أنه لن يُترك بدون تعزيات روح الله: “آه، ليتني لا أشعر أبداً بالألم بدون تعزية! لكن ليتني أشعر بالألم والتعزية معاً! … رغم كوني مريضاً، ليتني أمجدك في آلامي”. كان باسكال يرغب فقط في أن يمتليء بالمجد الذي ناله المسيح بآلامه والذي فيه يستمر المسيح “في الحياة مع الآب والروح القدس إلى أبد الآمين”.

آخر ستة أشهر من حياة باسكال كانت مليئة بمعاناة جسدية حادة. كان قد باع كل شيء، حتى مكتبته (ما عدا كتابه المقدس، ومؤلفات أغوسطينوس، وبعض الكتب القليلة المحببة لديه). عاش بعمق في الكتاب المقدس، خاصة في مزمور 119، الذي نقله في نشوة تتخطى ذاته.

كان يتوق إلى أن يؤخذ ليموت في دير إلى جانب المحتضرين، كما كان يتوق أيضاً إلى الاحتفال بالعشاء الرباني. لكن كلا المطلبين تم حرمانه منه. إلا أنه في لحظاته الأخيرة، سُمح له أن يتناول العشاء الرباني، وبعد أربع وعشرين ساعة من الآلام المتزايدة العنيفة، توفى في ليلة 19 أغسطس 1662.

ربما لا توجد كلمات تعبر بفصاحة عن غرض كتاباته أكثر من تلك: “القلب له أسبابه، التي لا يعرفها العقل”. كما يشرح في مكان آخر:

“الفهم له وسيلة خاصة به من خلال المعايير والبراهين. لكن القلب وسيلته مختلفة بالكامل. فنحن لا نثبت فهمنا للحب بواسطة تعليل نظامي لأسباب الحب؛ بل الواقع، أن هذا سيكون سخيفاً. استخدم يسوع المسيح والقديس بولس في مرات كثيرة جداً وسيلة القلب هذه، التي هي وسيلة الحب، أكثر من وسيلة الفهم. هذا لأن غرضهما الأساسي لم يكن يُعنى بالتعليم كما يُعنى بالإذكاء. وقد فعل أوغسطينوس نفس الشيء.”

هذا أيضاً هو السبب في أننا نستطيع أن نتحدث عن باسكال باعتباره “العقل المشتعل” The Mind on Fire، الملتهب بمحبة المسيح.

نص هذه المختارات مبني على مقارنة من النصوص الفرنسية لكل من L. Brunschvicg و

  1. Mesnard مع النصوص الإنجليزية لجون وارينجتون John Warrington ، و
  2. J. Kraisheimer في “أفكار” Pensées. التسلسل يتبع في توافق بنية

Anthony R. Pugh للنص. أما بالنسبة للخطابات الإقليمية Provincial Letters فقد اتبعت تسلسل باسكال في Oeuvres Complètes (Paris: Seuil, 1963) إلى جانب طبعة عام 1889 بالانجليزية، إصدار Griff Farran, Okeden & Welsh (لندن وسيدني). صلاة باسكال مأخوذة من “أفكار حول الدين … لبليز باسكال” Thoughts on Religion … of Blaise Pascal (أكسفورد ولندن، 1851).

إنني ممتن إلى صديقي المخلص Os Guinnes، الذي قام بتقديم هذه المختارات. مثل باسكال، هو ناقد نبوي لزماننا ويمثل دقة الفكر التي نحتاجها للنقد إن كانت لنا آراء مسيحية في مجتمعنا الخاص. كما أنني مدين أيضاً إلى السيدة جين نوردلند والسيد فاليري مايلن لأجل مساعدتهما في كتابة النص على الآلة الكاتبة.

جيمس هيوستن

James Houston