غبار الموت فى كل مكان
إن جيلنا جائع – للحب، وللجمال، وللمعنى. ويغطي “غُبار الموت” dust of death كل شيء. وكما كان في أيام إرميا، هكذا أيضًا يوجد فينا ذلك التوق غير المشبَغ إلى معزٍ كافٍ.
وقد صاغ إرميا الأمر جيدًا في مراثي إرميا 1: 16 “على هذه أنا باكية. عيني، عيني تسكب مياهًا لأنه قد ابتعد عني المعزي، راد نفسي”. لماذا طلب الشعب في أيام إرميا العزاء، ولم يجدوه، ولماذا طلبوا الشبع ولم يجدوه؟ لأنهم لم يذكروا آخرة الإنسان، والغرض من وجوده. أود أن أوصي لكم بشدة من جهة شيء ما. حين نتحدث في الدوائر الإنجيلية وذات الإيمان المستقيم عن الغرض من وجود الإنسان، فإننا عادة ما نقتبس الإجابة الأولى الواردة في دليل أسئلة وأجوبة وستمنستر Westminster Catechism: “إن هدف الإنسان الرئيسي هو أن يمجد الله”. وغالباً ما تنتهي الجملة عند هذا الحد. لكن هذا هو ما يغير تغيراً كاملاً لفَهم أسلافنا المنتمين إلى عصر الإصلاح للكتب المقدسة. فإن أردت أن تقدم الإجابة الكتابية الوافية، لا بد أن تنهي جملتهم: “إن هدف الإنسان الرئيسي هو أن يمجد الله، وأن يستمتع به إلى الأبد“. يغير هذا من كل منظور ومفهوم الحياة.
ثم وفي مراثي إرميا 1: 19، نقرأ هذا: “ناديت محبيَّ. هم خدعوني. كهنتي وشيوخي في المدينة ماتوا، إذ طلبوا لذواتهم طعامًا ليردوا أنفسهم”. وهكذا نجد هذا الذكر لرد النفس للمرة الثالثة في وحدة هذه السلسلة المترابطة من النصوص في مراثي إرميا 1: 11؛ 1: 16؛ 1: 19.
ما هي إذن نتيجة انصراف الإنسان عن إعلان الله وعن الإله الحقيقي الذي هو موجود؟ ومن أي منظور علينا أن ننظر إلى عالم ما بعد المسيحية الذي نعيش فيه؟ بالطبع على كل مؤمن مسيحي أن يكون له رديَّ فعل تجاه جيلنا. الأول، هو البكاء، إذ نشاهد مجتمعنا يتحطم ويخرب. وليس فقط أن الأفراد يهلكون، ولكن أيضاً نجد تحطيم وهلاك كل مجتمعنا. رد الفعل الثاني هو أننا لا بد أن نكون على دراية ووعي بأنه بعدما كان المجتمع مبنيًا على فكر الإصلاح الكتابي، ثم انصرفت الأجيال التي تسبقنا مباشرة عن ذلك الحق، فلا بد أن يحل الموت في المدينة! لا بد لنا أن نتيقن من هذا!
حين يقول إرميا، في مراثي إرميا 1: 19، إنهم ماتوا في المدينة (أسلموا روحهم)، وإن هناك موت في المدينة، كانت المدينة هنا هي بالتحديد مدينة أورشليم. لكن لا بد لنا أيضًا أن نوسع نطاق كلمة “مدينة” كي تشمل ما هو أكثر من هذا. يمكن ربط الكلمة بالكلمة اليونانية “polis“، أي مجموعة مجتمعية أو مجتمع. وهكذا، إذ كان الله يتعامل مع مجتمع انصرف عنه، لم يكن لدى إرميا سوى شيء واحد يقوله: “هناك موت في المدينة. هناك موت في المدينة!” وكان هذا في زمان إرميا، وهو حادث في زماننا هذا أيضًا.
ماذا عسانا أن نقول من جهة بلادنا؟ بالطبع، ينبغي أن نسر بالحريات التي نتمتع بها. لكن، مع ذلك، ألا ينبغي أن ندرك أيضًا أنه بما أنه لم يعد هناك أساس مسيحي لمجتمعنا، فإن موتًا سيحل في المدينة؟ أتظنون أن بلادنا يمكن أن تظل كما كانت، بعد أن طرحت عنها الأساس المسيحي؟ لا تكونوا أغبياء. كان إرميا لينظر إليكم ويقول: “لستم تتبنون المنظور الصحيح. كان ينبغي أن تصرخوا وتنوحوا. لأن هذا هو ما سيؤول إليه الحال. فإذ قد انصرفتم عن ذاك الذي يستطيع أن يشبع، وعن ذاك الذي يستطيع أن يعزي، وأشحتم بوجوهكم عن محبته، وعن إعلانه التصريحي، فسيحل موت في مدينتكم، في مجتمعكم!” هذا هو الوضع الذي يقف فيه إنسان العصر الحديث. وبالتالي، نرى أن إرميا يقدم لنا بالفعل المنظور الذي ينبغي أن نتبناه بشأن زماننا الحاضر. هذه هي رسالته. فإن التاريخ، حقًا، ليس شيئًا آليًا. ففي زمان إرميا، عمل الله بداخل التاريخ بناء على طبيعته، وهو لا يزال يعمل هذا أيضًا. كان هذا الشعب ذاهبًا إلى السبي البابلي، لا لأسباب عسكرية أو اقتصادية فحسب. فقد أدانهم الله، كإله قدوس، إذ انصرفوا وابتعدوا عنه. وهو سيعمل المثل في جيلنا.
(نسأل القارىء: هل نحن أفضل من هؤلاء، من شعب الله، في زمان إرميا أو أفضل من هؤلاء في زمان الكاتب؟! ندعو القارىء ليرى بوضوح دينونة الله العادلة على مجتمعنا وعلى كنيستنا – ندعوه ليرى غُبار الموت في المدينة.. غُبار الموت في كل مكان – المُحرر).
دعونا نستكمل النظر إلى سفر إرميا وإلى ما تكلم به إرميا إلى عصرٍ كان كثيرَ الشبه بعصرنا هذا. كما تعلمون، يُلقَّب إرميا “النبي الباكي”، إذ نجده يبكي وينوح على شعبه. ويتوجب علينا أن نتبنى موقفه هذا: علينا أن نبكي وننوح على الكنيسة، إذ قد ابتعدت وانصرفت عن الله، ونبكي أيضاً على المجتمع الذي حذا حذوها. (ينبغي أن نُلاحظ ترتيب البكاء عند الكاتب: يبكي أولاً على الكنيسة الزانية الضالة، ثم على المُجتمع؛ وذلك لأن الدينونة ستبدأ أولاً وأساساً مع الكنيسة الزانية بحسب 1 بطرس 4 : 17 – المُحرر).
أيضًا لم تكن رسالته بالرسالة السهلة. فإننا نتعرف على الماهية الجوهرية لتلك الرسالة من إرميا 1: 10 “انظر! قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك، لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس”. لاحظ معي الترتيب. أولًا، كان ينبغي أن تكون الرسالة رسالة سلبية صارمة – ثم بعد هذا تأتي الرسالة الإيجابية. لكن كانت الرسالة السلبية أساسية وأولية. كان ينبغي أن تكون رسالة دينونة للكنيسة التي ابتعدت وارتدت، وللمجتمع الذي خرج منها. فقد تمرد يهوذا وثار على الله وعلى حقه المعلَن؛ ويقول الله إن رسالة إرميا كان لا بد أن تكون في الأساس رسالة دينونة. وأؤمن أن الرسالة نفسها ينبغي أن تكون رسالتنا اليوم.